فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مجاهد: إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث. وقيل: كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات. وقيل: معناه إذا أراد فعلًا يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201] {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسبه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي. والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم. وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان. ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لَكِني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكًا بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالًا منهم. وقال صاحب الكشاف: المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمتة ولا يوافق هواهم، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك. فقلت تلك الغرانيق إلخ. وسبب التمكين أرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية.
وأما قوله: {فينسخ الله} فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله: {ثم يحكم الله آياته} فالمراد بالآيات هي آيات القران أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة. ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية. وقوله: {وإن الظالمين} أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق البعيد والمعاداة الكاملة. وأعلم أنه سبحانه ذكر لتمكين الشيطان من الإلقاء في الأمنية أثرين: أحدهما في حق غير أهل الإيمان وهم أهل النفاق والشرك وذلك قوله: {وليجعل} الآية.
وثانيهما في حق المؤمنين العارفين بالله وصفاته وهو قوله: {وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق} قال مقاتل: يعني القران. وعن الكلبي: أي النسخ. قال جار الله: أي تمكين الشيطان من الإلقاء قلت: أما عند الأشاعرة فلأن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، وأما عند المعتزلة فلأن أفعاله جارية على وفق الحكمة والتدبير. {فتخبت} تخضع وتطمئن {له قلوبهم} بناء على أصلي الفريقين. والصراط المستقيم هاهنا فسروه بالتأويلات الصحيحة والبيانات المطابقة للأصول. قلت: وتفسيره بمعنى أعم من ذلك غير ضائر. ثم بين أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن يكون في شك من القرآن والرسول واليوم العقيم. قيل: يوم بدر لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، أو لأنه لا خير فيه للكفار من قولهم ريح عقيم إذا لم تنشيء مطرًا ولم تلقح شجرًا، أو لأن يوم الحرب يقال له العقيم من حيث أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرون كأنهن عقم لم يلدن، أو من حيث إن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا بقي الحرب بلا أبناء. وعن الضحاك أنه يوم القيامة لأنهم لا يرون فيه خيرًا، أو لأن كل ذات حمل تضع فيه حملها، أو لأنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على عدم الولادة. ولا تكرار على هذا القول لأن المراد بالساعة مقدماته، أو المراد حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذابها، فوضع يوم عقيم مقام الضمير. واستحسن بعض الأئمة قول الضحاك ورجحه لأن الأول يلزم منه أن الكفار ينتهي شكهم في يوم بدر وليس كذلك فإنهم في مرية بعد يوم بدر أيضًا. ويمكن أن يقال: أو للعطف على أول الآية فيكون المراد بالذين كفروا في الأول الجنس، وفي الثاني العهد. سلمنا أنه للعطف على {تأتيهم} إلا أن اللام في {الذين كفروا} للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.
ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار. ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصًا لهم بمزيد التشريف. يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله عز وجل: {والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا} قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
وقال بعضهم: هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر. ولا يبعد حمل الآية على الفريقين. والرزق الحسن نعيم الجنة. وعن الكلبي: هو الغنيمة لأنها حلال. وقال الأصم: العلم والفهم كقول شعيب {ورزقني منه رزقًا حسنًا} [هود: 88] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت. قال العلماء: وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلابد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم. {وإن الله لهو خير الرازقين} لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق. ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير. وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد. وقد يستدل على التسوية بما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية.
وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم. قيل: في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، لها سبعون ألف صراع. وقال أبو القاسم القشيري: هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم. وقال ابن عباس: يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولًا {وإن الله لعليم} بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم {حليم} عن تفريط المفرط منهم فيمهله حتى يتوب فيدخل الجنة. ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال: {ذلك} قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصةً إذا قتلوا أو ماتوا. عن مقاتل: أن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل {ومن عاقب} أي قاتل {بمثل ما عوقب به} أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللمبلابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه {ثم بغي عليه} أي ثم كان المجازي مبغيًّا عليه أي مظلوما.
ومعنى ثم تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل البادي أظلم وهو موجب لتنصرته ظاهرًا إلا أن كونه في نفس الأمر مظلوما هو السبب الأصلي في النصرة. وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات. واستدل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص فقال: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها: أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله: {فمن عفا واصلح فأجره على الله} [الشورى: 40] وكأنه قال: أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإِني عفوّ غفور. ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح. ومنها أن دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة. ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران. وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيرًا أو شرًّا إنصافًا أو بغيًّا وأكد هذا المعنى بقوله: {إن الله سميع بصير} يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم.
ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال: {ذلك} أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولاسيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان. ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شانًا وأكبر سلطانًا. وإنما قال هاهنا {من دونه هو الباطل} بزيادة هو وفي لقمان {من دونه الباطل} [الآية: 30] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضًا زيدت اللام في قوله: {وإن الله لهو الغني الحميد} بخلاف ما في لقمان وأيضًا يمكن أن يقال: تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر ههنا. ثم ذكر أنواعًا أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال: {الم تر} قيل: هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات. وقيل: بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها. وفي قوله: {فتصبح} دون أن يقول فأصبحت مناسبًا لـ: {أنزل} إشارة إلى بقاء أثر المطر زمانًا طويلًا وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل: أنعم فلان على عام كذا فأروح وأغدو شاكرًا له.
ولو قال: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع. وإنما لم ينصب {فتصبح} جوابًا للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك: الم تراني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته أو همت أنك نافٍ لشكره شاكٍ تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى دليل الإعادة كما في أول السورة وهذا قول أبي مسلم: {إن الله لطيف خبير} قال الكلبي: لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه. وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط الأنعام. ثم بين أن كل ما في السماوات والأرض ملكه وملكه لاي متنع شيء منها من تصرفاته، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعامًا عليها. وإذا كان إنعامه خاليًّا عن غرض عائد إليه كان مستحقًّا للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)}.
أفرد سبحانه المهاجرين بالذكر تخصيصًا لهم بمزيد الشرف، فقال: {والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله} قال بعض المفسرين: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
وقال بعضهم: الذين هاجروا من الأوطان في سرية أو عسكر، ولا يبعد حمل ذلك على الأمرين، والكلّ من سبيل الله {ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ} أي في حال المهاجرة، واللام في {لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقًا حَسَنًا} جواب قسم محذوف، والجملة خبر الموصول بتقدير القول، وانتصاب {رزقًا} على أنه مفعول ثانٍ، أي: مرزوقًا حسنًا، أو على أنه مصدر مؤكدة، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الذي لا ينقطع وقيل هو الغنيمة لأنه حلال.
وقيل: هو العلم والفهم كقول شعيب: {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} [هود: 88].
قرأ ابن عامر وأهل الشام: {ثم قتلوا} بالتشديد على التكثير، وقرأ الباقون بالتخفيف {وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين} فإنه سبحانه يرزق بغير حساب، وكل رزق يجري على يد العباد لبعضهم البعض، فهو منه سبحانه، لا رازق سواه ولا معطي غيره، والجملة تذييل مقرّرة لما قبلها.
وجملة: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} مستأنفة، أو بدل من جملة: {ليرزقنهم الله}.
قرأ أهل المدينة: {مدخلًا} بفتح الميم، وقرأ الباقون بضمها، وهو اسم مكان أريد به الجنة، وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان.
وفي هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا {وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ} بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم {حَلِيمٌ} عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم.
قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، ومعنى {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ}: من جازى الظالم بمثل ما ظلمه.
وسمي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40].
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه.
والمراد بالمثلية: أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه، ومعنى {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ}: أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى.
قيل: المراد بهذا البغي: هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به، واللام في {لَيَنصُرَنَّهُ الله} جواب قسم محذوف، أي لينصرن الله المبغيّ عليه على الباغي {إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي كثير العفو والغفران للمؤمين فيما وقع منهم من الذنوب.
وقيل: العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو.
وقيل: إن معنى {ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ} أي ثم كان المجازي مبغيًّا عليه، أي مظلوما، ومعنى ثم تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب: البادي أظلم.
وقيل: إن هذه الآية مدنية، وهي في القصاص والجراحات.
والإشارة بقوله: {ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِي النهار} إلى ما تقدّم من نصر الله سبحانه للمبغيّ عليه، وهو مبتدأ وخبره جملة: {بأن الله يولج}، والباء للسببية، أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالإيلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر.
وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} يسمع كلّ مسموع {بَصِيرٌ} يبصر كلّ مبصر، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.
والإشارة بقوله: {ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق} إلى ما تقدّم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام، أي هو سبحانه ذو الحق، دينه حقّ، وعبادته حقّ، ونصره لأوليائه على أعدائه حقّ، ووعده حقّ، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حقّ {وَإِن مَا تَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل} قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة {تدعون} بالفوقية على الخطاب للمشركين، واختار هذه القراءة أبو حاتم.